


الملخص:
الحمد لله القائل : ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ .... ﴾، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا وحبيبنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، وبعد :
فقد اختلفت اللهجات الفصيحة في بلاد الجزيرة العربية ، مهد العرب الأول ، في كثير من مفرداتها اللغوية ، وطرق لفطها ، ومظاهر تركيبها ، مع اشتراكها في القدر الأكبر منها ، ولم يَخْفَ ذلك على علمائنا ، الذين نعتوا بعض هذه اللهجات ( اللغات ) بالفصاحة ، كلغة قريش ، وثقيف ، وأسد ، وتميم ، وهذيل ، وخزاعة ... وبعضها بالرداءة ، كلغة إياد وغيرها ؛ لأنها عاشت في أطراف الجزيرة العربية ، فخالطت غير العرب .
ولما نزل القرآن الكريم ، كان قد اختار ألفاظه من سنام العربية ، فنَزل بلغة قريش ، مع اشتراكها في اللغات الأخرى الفصيحة ، ولهذا تعددت وجوه القراءات فتعددت وجوه المعاني ، وتعددت وجوه الإعراب .
وقد كثرت المؤلفات في هذا الجانب ، فجاء موضوعي هذا ليتناول طرفًا من ذلك الموضوع .
والباحثون على كثرتهم منذ أن نزل القرآن ، وهم يبحثون ، وكلما ظنَّ جيل أنه قد بلغ الغاية ، امتدَّ الأفق بعيدًا ليفوق طاقة الدَّارسين .
واللغة العربية على وفرة مصنفاتها ، وتنوع المؤلفات في نحوها وصرفها وآدابها ، لا يزال فيها جوانب كثيرة تحتاج إلى البحث الجادّ والدراسة العلمية الإجرائية الموثقة ، وقد جاءت هذه الرسالة الموسومة بـ :
القول ومقوله في القرآن الكريم - دراسة نحوية دلالية
لتكون إحدى تلك الجوانب ، والتي تبحث في صلة النحو بالدلالة ، من خلال دراسة إجرائية تحليلية ، على أبرز جانب من جوانب الكلام ؛ وهو آيات القول ومقوله في القرآن الكريم .
وقد أدرك علماء العربية الصلة الوثيقة بين اللفظ والمعنى ، فالبنية السطحية تُفَسِّرُها بنية عميقة ، ترتبط أَشدَّ الارتباط بالدلالة ، التي يُعِينُ على إبرازها السياقان اللغوي والمقامي ، والمتتبع لنصوص القُدَامَى يجد ذلك جليّاً في تصانيفهم ، ففي « الكتاب » قال « سيبويه »: « هذا باب الاستقامة من الكلام والإحالة ، فمنه مستقيم حسن ، ومحال ، ومستقيم كذب ، ومستقيم قبيح ، وما هو كذب محال ... إلخ » وذهبَ يضرب أمثلةً على ذلك ، فهو بهذه اللفتة الفذَّة والومضة الفريدة وضع بذوراً لنظرية نحويةٍ دلالية ، دَمَجَ فيها قوانين النحو مع قوانين الدلالة.
وما أجمل كلام « عبد القاهر الجرجاني » في « دلائل الإعجاز » إذ قال : « واعلم أنك إذا رجعتَ إلى نفسكَ ، علمتَ علماً لا يعترضه الشك ، أنْ لا نَظْمَ في الكَلِمِ ولا ترتيبَ ، حتَّى يُعَلَّقَ بعضها ببعض ، ويُبْنَى بَعْضُها على بعض ، وتُجْعَلَ هذه بسببٍ من تلك . هذا ما لا يجهله عاقل ، ولا يخفى على أحدٍ من الناس .... وإذا كانَ لا يكونُ في الكَلِمِ نَظْمٌ ولا ترتيبٌ إلا بأنْ يُصْنَعَ بها هذا الصنيع ونحوه ، وكان ذلك كلُّه مما لا يرجِعُ منه إلى اللفظ شيءٌ ، ومما لا يُتَصَوَّرُ أن يكونَ فيه ولا من صفته ، بانَ بذلك أنَّ الأمر على ما قُلْناهُ من أنَّ اللفظ تَبَعٌ للمعنى في النظم ، وأنَّ الكَلِمَ تَتَرتَّبُ في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس ، وأنها لو خلت من معانيها حتى تتجرَّدَ أصواتاً وأصداءَ حروفٍ ، لما وقعَ في ضميرٍ ولا هَجسَ في خاطرٍ أن يجبَ فيها ترتيبٌ ونظم ، وأنْ يُجْعَلَ لها أمكنةٌ ومنـازلُ ، وأنْ يجبَ النطقُ بهذه قبل النطق بتلك ».
والقرآن الكريم قد مضى على إنزاله أربعة عشر قرناً من الزمان ، وقد حدثت خلال هذه المدة غير القصيرة أحداث ومتغيرات ليست بالقليلة أيضاً ، فأضحى بين أيدينا مُعطَيَات لم تتوافر للذين سبقونا من العلماء ، وذلك لاستمرار هذه الأحداث والمتغيرات والمعطيات ، ونحن لا ننكر فضلهم ، فقد أناروا لنا الطريق الموصل لفهم الكتاب المجيد .
وسيبقى القرآن الكريم واللغة العربية ميداناً واسعاً وخصباً لدراساتِ المتخصصين وبحوثهم في أسرار الحروف والألفاظ والتراكيب المختلفة ، وفي المعاني والدَلالات الكامنة في تلك الألفاظ والتراكيب .
فنُكَتُ الإعجازِ لا تتناهى ، وكلام الله تعالى صالح لكل زمان ومكان ، والأجيال في كُلِّ عصورهم وأمصارهم يحتاجون أن يجدوا ضالتهم في كتاب الله ، قال الله تبارك وتعالى : ﴿ ما فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّإِلَىرَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾.
ولذلك كان النص القرآني الذي هو أفصح أساليب العربية على الإطلاق مادة هذه الدراسة .
وإنَّ البحث في القرآن الكريم يُفيضُ على الباحثِ كنوزاً ثمينة ، ويكشفُ له عن أسرارٍ مكنونة، قال الله تعالى : ﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ ، ولهذه الغاية ، وهي التفكير في كلام الله سبحانه وتدبره كان المرويُّ عن الرسول r في التفسير قليلاً ، فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد في جميع آياته.
أمَّا الدراسة الدلالية في القرآن الكريم فإنَّ فيها إظهاراً لدقة اللغة العربية وسُمُوِّها ، بالإضافة إلى بيان إعجاز هذا الكتاب العزيز والإيضاح عن فصاحة أسلوبه .
فكرة هذا الموضوع تتلخص في الآتي :
تفصيل الحديث عما يتعلق بـ ( القول ومقوله ) من ( معانٍ ، وصيغ ، وصورٍ ، وأحوال ، وأحكام ... إلخ ) نحوياً من خلال ما ورد في القرآن الكريم من آيات تدور على موضوع ( القول ومقوله ) .
ثم تناول هذه التراكيب في الآيات الكريمة بالحديث عن دلالاتها مستعيناً بالله تعالى ، ثم بما ذكره العلماء قديماً وحديثاً ، وبما يفتحه الله عليَّ من فهم كلامه العزيز.
أسباب اختيار الموضوع وأهميته :
وأمَّا الأسباب التي دفعتني إلى اختيار هذا الموضوع فهي :
1.لم يسبق لأحد من الباحثين أن طرق هذا الموضوع فيما أعلم ، وقد رجعتُ إلى عدة مصادر للتأكد من ذلك وهي :
·قاعدة معلومات مركز الملك فيصل للرسائل الجامعية .
·مجلتي « التراث » الكويتية ، و« العرب » السعودية . لعنايتهما بنشر تعريفات عن الرسائل العلمية .
·أساتذة اللغويات في كليتي اللغات والآداب بجامعة صنعاء .
·أساتذة اللغويات في جامعتي الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، والملك سعود بالرياض بالإضافة إلى عدد من المكتبات الخاصة والعامة .
2.الأهمية الكبيرة للقول ومقوله في كلام العرب ، فهو من الأساسيات التي تتعلق بكل كلام وكل عبارة .
3.تعدد معاني القول في القرآن الكريم ، وصيغه ، وصوره ، وأحواله ، وتراكيبه ، وموقعه الإعرابي ، وكذلك مقوله .
4.الرغبة في البحث في القرآن الكريم ؛ إذ هو أفصح أساليب العربية على الإطلاق ، وهو كتابٌ يحوي كنوزاً كثيرة ، فمن بحث فيه بجدٍّ وإخلاص وتمعنٍ وتفكّر أفاضَ الله تعالى عليه علوماً كثيرة ، وفوائد جمَّة ، وكشف له عن أسراره ومكنوناته ، فهو شرف لمن اتصل به ، قال الله تعالى : ﴿ وَإِنَّهُلَذِكْرٌلَّكَ وَلِقَوْمِكَ ﴾ أي : شرف وحمد في الدنيا.
منهجي وعملي في هذا البحث :
اتبعت في بحثي هذا المنهج الوصفي ، الاستقرائي ، التحليلي .
وهدفي من اتباع هذا المنهج هو استقراء النص القرآني واستنباط الأحكام والقوانين النحوية ، ولَمُّ متفرقها من القرآن الكريم ، مستضيئاً بكُتُب معاني القرآن وإعرابه وتفسيره ، ثم أقوم بوصفها وتبيينها وتحليلها وفقاً للآراء الواردة.
وبعد ذلك أنتقل إلى « التقويم » بهدف تقويم الظواهر والآراء والأفكار ، ثم تبيين الراجح منها بحسب الأدلة والمعطيات التي يمدني بها الفكر النحوي القديم والحديث .
هذه هي خلاصة منهجي .
أمَّا عملي الذي قمتُ به فيتلخص في النقاط الآتية :
1.مهدت للبحث بتعريف القول ، واستعمالاته ، وتصاريفه ، وصيغه ، وصوره ... إلخ .
2.خَصَّصْتُ فصلاً للحديث عن أحكام الحكاية في النحو العربي .
3.جمعت ما يتعلق بـ ( القول ) و( مقوله ) من القرآن الكريم .
4.عُنِيتُ بالتوجيه النحوي في أغلب ما ورد في بحثي من آياتٍ كريمة .
5.عنيت بالأقوال الراجحة ، وابتعدتُ عن الأقوال المرجوحة والضعيفة ، فلا أذكر منها إلا ما يُحتاج إلى ذكره .
6.استخرجتُ القواعد النحوية لـ ( القول ومقوله ) ، من خلال ما جمعتُ من آيات كريمة .
7.بَيَّنْتُ ( القول ومقوله ) وأحكامهما في القرآن الكريم ، في ضوء النحو العربي .
8.خرَّجت ووثقت كل ما أوردته من آيات وأحاديث وأشعار وأقوال ؛ لِمَـا للتوثيق من أهمية بالغة في الحكم على صحة الاستدلال بهذه النصوص .
9.اعتمدت فيما جمعت من آيـات كريمة على قراءة « حفص عن عاصم » ، ولا أذكر غيرها ، إلا ما دعت إليه الحاجة ، وكان له صلة وثيقة بالموضوع.
10.قد أذكر الآية الواحدة في مسائل عدَّة ، مستدلاً بها في كل مرة على المسألة التي لها علاقة بها .
11.تجنبتُ استعمال الألقاب عند ذكر الأعلام ، مثل : ( الإمام ، الشيخ ، الدكتور ، الأستاذ ) ؛ اتباعاً لطريقة العلماء ، وخشية الإطالة فيما لا فائدة منه ، إلا من لا يعرف إلاَّ بلقبه .
12.أمَّا في توثيق النصوص المنقولة فقد اتبعت الآتي :
-النص المنقول بعينه دون تصرف أضعه بين علامتي تنصيص ، وأشير في الحاشية إلى اسم المصدر أو المرجع المنقول منه .
-أما النص المنقول بتصرف فإنه يبقى مهملاً دون علامتي تنصيص ، وهذا ما يميزه عما سواه ، وأشير في الحاشية إلى اسم المصدر أو المرجع من غير استعمال كلمة ( انظر ) .
-عندما أستعمل كلمة ( انظر ) فإني أعني بها أنه يمكن للقارئ الاستفادة والاستزادة من هذا المصدر أو المرجع .
وقد قسمتُ بحثي إلى مقدمة وتمهيد وستة فصول وخاتمة ، كالآتي :
·مقدمة .
·تمهيد
الفصل الأول:
أحكام الحكاية في النحو العربي
الفصل الثاني:
معاني القول الواردة في القرآن الكريم
الفصل الثالث:
القول مع مقوله في القرآن الكريم : صورهما وأحوالهما
الفصل الرابع:
الجمل الواقعة بعد ما فيه معنى القول في القرآن الكريم : صورها وأحكامها
الفصل الخامس:
حذف القول في القرآن الكريم
الفصل السادس:
دلالة القول والمقول في القرآن الكريم
·خاتمة .
·الفهارس .
ويطيب لي في هذا المقام أن أقدم شكري وتقديري عرفانًا وامتنانًا لكل من أرشدني ووجهني في إعداد هذه الرسالة ، حتى ظهرت بهذه الصورة ، وأخص بالشكر أستاذي الدكتور طارق عبد عون الجنابي ، المشرف الرئيس على الرسالة ، وأستاذي الدكتور ياسين جاسم المحيمد ، المشرف المشارك على الرسالة ، وقسم اللغة العربية ممثلاً برئيسه الدكتور عبد الله طاهر الحذيفي ، والدكتور أحمد الزمر .
وأسأل الله العلي القدير أن يوفقنا لما يحبه ويرضاه ، ويسدد في طريق الخير خطانا .
تعليق